
بقلم / محمد سنهوري الفكي الامين
m.sanhory@yahoo.com
تخيل المشهد في برلين: داخل مبنى البوندستاغ، يجلس خبراء الاقتصاد والاجتماع والسياسة أمام شاشات مكدسة بالبيانات، يدرسون مستقبل الطاقة، يتنبأون بآثار التغير المناخي، ويضعون خططًا لمواجهة الشيخوخة السكانية. هؤلاء ليسوا موظفين في مراكز أبحاث مستقلة، بل هم كوادر حزبية، يعملون من قلب الأحزاب نفسها. هكذا تحولت الأحزاب الغربية إلى مختبرات فكرية، مصانع للأفكار والسياسات، تُدار بالعقل والعلم، لا بالشعارات الجوفاء ولا بالولاءات العاطفية.
والآن، انقل عينيك إلى السودان. زعيم حزبي يجلس على كرسي موروث، يقرر وحده مصير الحزب، بينما يصفق المريدون وتنتظر العائلة دورها في وراثة القيادة. لا مراكز أبحاث، لا دراسات، لا خطط تنموية؛ فقط خطب متكررة وشعارات قديمة يعاد تدويرها منذ عقود. في هذا المشهد، لا الولاء للبرنامج ولا للفكرة، بل للزعيم والطائفة، وكأن الحزب مجرد امتداد لتراث اجتماعي أكثر منه مؤسسة سياسية. فكيف يمكن لحزب بهذا الشكل أن يبني مستقبل أمة كاملة؟
قد يظن البعض أن الغرب نجح لأنه تخلص من الأحزاب العقائدية. لكن الحقيقة غير ذلك. الغرب مليء بالأحزاب العقائدية: الديمقراطي المسيحي في ألمانيا، الخضر بعقيدتهم البيئية، الاشتراكيون والشيوعيون في فرنسا وإيطاليا. الفارق أن هذه الأحزاب لم تبقَ سجينة عقيدتها. العقيدة هناك إطار قيمي مرن، منفتح على التطوير، خاضع للشفافية والانتخابات والمحاسبة. أما في السودان، فالعقيدة والطائفية صارت قيدًا حديديًا يمنع أي تجديد، وزاد الولاء الأعمى الطين بلة، حتى صار الزعيم فوق المؤسسة والحزب فوق المحاسبة، والجماهير مجرد متفرج على مسرح مغلق.
لكن الأزمة لا تقف عند الطائفية والعقائدية وحدهما. فحتى الأحزاب غير العقائدية في السودان، والتي وُلدت من رحم الحركات الشبابية أو النقابية، لم تنجُ من العلل البنيوية. معظمها يفتقر إلى الديمقراطية الداخلية، والرؤية العلمية، والشفافية. قراراتها محصورة في دوائر ضيقة، برامجها تفتقر إلى الدراسات، ومواردها المالية يلفها الغموض. والنتيجة؟ فقدان ثقة الجماهير، وعجز عن التحول إلى مؤسسات وطنية قادرة على قيادة التغيير. وإذا كانت الأحزاب العقائدية والطائفية أسيرة الماضي، فإن الأحزاب غير العقائدية أسيرة ضعف التنظيم والفكر.
التمويل يكشف التناقض بوضوح. في أوروبا، التمويل الحزبي يخضع لقوانين دقيقة: دعم حكومي يتناسب مع حجم التمثيل البرلماني، حظر كامل للتمويل الأجنبي، ورقابة صارمة على كل تبرع. الهدف حماية الديمقراطية من سيطرة الأثرياء والتدخلات الخارجية. في السودان، الأمر مختلف: مصادر التمويل غامضة، والمال السياسي يتدفق عبر قنوات مظلمة، ليبقى الحزب رهينة جيوب ضيقة أو أجندات خارجية. فأي مشروع وطني يمكن أن يُبنى على أموال مشبوهة؟
أما الانقلابات العسكرية، فهي الوجه الأكثر قسوة للأزمة. كلما بدأت تجربة حزبية تنضج، جاء انقلاب ليعيد كل شيء إلى نقطة الصفر. لم يُتح للأحزاب السودانية أن تراكم خبرة ديمقراطية متواصلة، فظلت هشة وضعيفة، وهو ما فتح الباب أمام الجيش ليبرر تدخله بحجة “إنقاذ البلاد”. لكن الحقيقة أن الأحزاب نفسها ساهمت في صناعة هذا الفراغ. فلو بنت نظمًا ديمقراطية داخلية قوية، ووضعت برامج وطنية مقنعة، لما وجدت الانقلابات أي مبرر للوجود.
المعادلة هنا واضحة وبسيطة: جيش يحمي الديمقراطية ولا يقوضها، وأحزاب تبني مؤسسات قوية تنفي أسباب الانقلابات. الجيش دوره أن يحرس الدستور والسيادة، لا أن ينافس الأحزاب في السياسة. والأحزاب دورها أن تسد الفراغ، وتقدم بدائل واقعية، وتمنع الانقسامات التي تُغري بالتدخل. حين يقوم كل طرف بدوره، تسقط الانقلابات من قاموس السياسة، وتترسخ ثقافة مدنية لا يُهددها السلاح.
اليوم، لا يحتاج السودان إلى مساحيق تجميل حزبية، بل إلى ثورة سياسية داخل الأحزاب نفسها. من الولاء الأعمى إلى النقد البنّاء. من الطائفية الضيقة إلى الوطنية الجامعة. من الغموض المالي إلى الشفافية الكاملة. الحزب ليس ملكية خاصة، ولا غنيمة توزع على الأتباع، ولا مملكة تُورّث. الحزب إما أن يكون مؤسسة وطنية تخدم الشعب أو أن يتلاشى من الذاكرة السياسية.
التاريخ يعلمنا أن التغيير ممكن. ألمانيا خرجت من أنقاض الحرب العالمية الثانية لتبني ديمقراطية صلبة، لأن أحزابها تحولت إلى مؤسسات فكرية. فرنسا تجاوزت أزماتها المتكررة ببناء أحزاب قوية ومساءلة حقيقية. كندا وأستراليا وضعتا قواعد شفافة للتمويل والحياة الحزبية، فحمتا ديمقراطيتهما من المال الأجنبي ومن تغول المصالح الخاصة. السودان قادر على السير في الطريق ذاته، إذا امتلكت أحزابه الشجاعة للتحرر من أسر الطائفة والعقيدة والولاء الأعمى، وتجاوزت أزماتها الداخلية من غياب الديمقراطية والشفافية، وأدركت أن السياسة ليست إدارة الماضي، بل صناعة الغد .